أنا عبلة الحجايا من سكان إحدى مناطق البادية الجنوبية، بالتحديد، من لواء الحسا الواقعِ محاذاةِ الطريق الصحراوي شمالَ محافظةِ الطفيلة.
عندما بدأت مسيرتي المهنية وأنشطتي التطوعية كان هاجسي الكبير، الاستيقاظ باكراً والوقوف لساعات طويلة على الطريق الصحراوي الخطر، بإنتظار باص يقلني الى العاصمة عمان أو الطفيله، أي ان حركتي منوطه بحركة المواصلات من حولي، وهذه المعاناة لا تخصني وحدي وانما الكثير من زميلاتي ومن سكان المنطقة. اذكر عدة مرات سمعت فيها عن حالات الدهس على الطريق الصحراوي نتيجة سائق متهور أو سائق لم ينتبه الى وقوف احد الركاب على جانب الطريق في الظلام لانعدام الاناره. اتذكر ابي رحمه الله عندما جاءني متأثراَ بخبر وفاة جار لنا كان ينتظر باصاَ يقله الى عمان، اتذكر كلمات أبي كثيرا "حياتك أهم عندي من نشاطك الاجتماعي والسياسي" وكانالحق معه في حرصه على سلامة بناته، ولكني قررت أن لا أقف وألعن الزمن، بل أن أتحرك لأغيّر هذا الواقع، قمت في عام 2018 بالترشح للانتخابات النيابية، لأخدم المنطقة ولأكون نموذجاً ومحفزةَ للنساء الأخريات اللواتي يمتلكن طاقات كبيرة،حصلت على تشجيع كبير من أهالي المنطقة للإنطلاق والعطاء والاستمرار لتمكين النساء وزيادة فرصهن، وانطلقت من معاناة سكان لواء الحسا التي يسكنها ما يقارب 18 ألف نسمة يعانون من نقص في الخدمات الأساسيه خاصةَ المواصلات العامة.هذه القضية التي كانت ولا زالت تقف عائقا في طريق تقدمي وتقدم العديد من النساء في المنطقة. فمجمع الباصات في الحسا أغلق من فترة طويلة ولم يعد الباص يمر داخل المدينة، فتوجب على من يريد استخدام الباص، الإنتظارعلى الطريق السريع بظروف غير آمنة وغير ملائمة للجميع،ولا سيما للنساء، فالإنتظار كان يرافقه دوماً الشعور بالخوف من السرعة الزائدة التي يقود بها أصحاب السيارات، ومن التعليقات من السائقين وهم يعبرون المنطقة، ومن الوجود غير الآمن في طريق خال من حركة المارة والناس، وكان ذلك يدفع العديد من الفتيات والسيدات إلى عدم التنقل أساساَ وتقييد حركتهن خوفاَ من هذه المخاطر والمغامرة، كان بداخلي شعورٌ دائم بأن علي أن أفعل شيئا لتغيير هذا الواقع، فلا يمكن أن يكون التنقل وهو أبسط الحقوق المدنية غير متاح لفئة من فئات المجتمع وهن النساء، فالعديد من الرجال في المنطقة يملكون سيارات خاصة يعتمدون عليها للتنقل، أما النساء فهن أكثر تأثراَ فيعدم وجود مجمع باصات ونظام نقل آمن داخل المنطقة. كانت هذه القضية أولوية دائما بالنسبة لي كناشطة مجتمعية، تحدثت يوماَ عن هذا المطلب مع أحد أصحاب القرار، فكان جوابه لي: "الحسا ممر وليس مقر"، فأية وسيلة مواصلات متجهة من وإلى الجنوب تستطيع أن تنقل أهل منطقة الحسا"، حسب رأيه.
أدركت حينها أن هذه القضية تحتاج إلى مزيد من التحديد لشرحها بشكل شامل، مبني على الأدلة والاحتياجات، مما دفعني أنا و زميلاتي رنا السبايلة ومنال المراغبة من جمعية سيدات الحسا الخيرية لتنظيم مبادرة مجتمعية، من خلال الشبكة العربية للتربية المدنية (أنهر) وبدعم من منظمة هيفوس الهولندية للتحرك للمطالبة بإنشاء مجمع باصات داخل لواء الحسا.
أدركنا أن علينا أن نفهم السياسات العامة الخاصة بالنقل في الحسا، ومن يصنع القرارات الخاصة بذلك! ومن ثم علينا أن نقترح الحلول والبدائل بشكل يساعدنا حشد الناس والشباب وأصحاب الرأي والتأثير، لمناصرتنا والضغط على صناع القرار لتبنيها واتخاذ القرار بشأن تنفيذ هذا المطلب.
بدأنا العمل، نحن الفتيات الثلاث، في البداية قمنا بعقد جلسات منزلية مع سيدات المنطقة بغرض جمع المعلومات وفهم المشكلة بطريقة أعمق وتأثيرها على حياة الناس والحشد والتحقق من المشكلة التي تم تحديدها، هل تشكل أولوية لهن أم لا؟
وبالفعل أثنت السيدات على أهمية هذه المشكلة وعبرن عن أنها فعلاً أولوية بالنسبة لهن من خلال مشاركتنا قصصهن وقصص الأشخاص ضحايا الطريق الصحراوي ومحاولات التحرش التي تعرضن لها؛ وأكدت السيدات انهن مستعدات للتعاون والعمل معنا وحضور فعاليات المبادرة والحديث مع جاراتهن ومعارفهن حول أهمية هذه المبادرة، مما أكّد لنا أن هذه القضية هي هم للجميع.
ارتأينا ايضا انه يجب أن نجتمع ونلتقي بالعديد من الشباب والقيادات المجتمعية والناس والبحث لمعرفة من المسؤول من صناع القرار، وأدركنا أيضا أننا بحاجة إلى التشبيك مع مؤسسات مجتمع مدني أخرى لكسب التأييد حول السياسة المقترحة لمطلبنا بإعادة تشغيل خط باصات الحسا- عمان والمجمع القديم.
وبالفعل قمنا بالتعاون مع عدة مؤسسات مجتمع مدني اخرى، وقمنا بتشكيل فريق من شباب وشابات المنطقة للحشد المجتمعي حول هذا المطلب، قمنا بالتواصل مع أصحاب القرار، قمنا بطرق عدة أبواب من المتصرف، إلى رئيس البلدية، إلى مجلس المحافظة واللامركزية ومديرية هيئة النقل، كذلك قمنا بتشكيل لجنة مجتمعية تضم وجهاء من أهالي اللواء وكسب دعم من مدير هيئة النقل، وأصبح لدينا فهم أفضل لمدى صلاحيات كل جهة ومهارات الضغط وكسب التأييد للوصول إلى قرار بشأن ما اقترحناه.
اليوم وبعد قرابة عشرة أشهر من العمل الدؤوب والمتواصل نجحنا في الحصول على كتاب رسمي من متصرف لواء الحسا مُعلناً قراره بإعادة تشغيل خط باصات الحسا- عمان ابتداءا من 1 أيلول 2019 بمواقف تجمُع محددة وساعات عمل محددة، يتم الاعلان عنها للجميع، وقريبا سيتم الإعلان عن إستحداث خط باصات نقل داخل اللواء. كما قامت مديرية النقل بالتشاور بخصوص توفير باص مع خط داخلي يعود ريعه لجمعية سيدات الحسا الخيرية.
سعادتنا بهذا القرار لا توصف، فنحن اليوم استخدمنا الباص من موقف محدد دون الحاجة للوقوف على الطريق الصحراوي، ومن نجاحات المبادرة أيضا أنه وأخيرا قام رئيس البلديه بمخاطبة الجهات المعنية لتخصيص قطعة ارض لانشاء مجمع السفريات عليها.
هذه التجربة جعلتني أكثر وعياً بأهمية التنظيم المجتمعي، وأصبحت أدرك وأستخدم المصطلحات السياسية والحقوقية في عملي كرئيسة شؤون المرأة والشباب في المجلس البلدي، كما أصبحت جمعية سيدات الحسا اليوم تحظى بقاعدة شعبية داعمة لقضاياها، لديها فريق متعاون ومتجانس ومدرب ليكون مظلة للمبادرات الشبابية والنسائية في المنطقة، وقد نجحت الجمعية أن تخرج من النمطية في طبيعة عملها وتتجه إلى النهج الحقوقي التنموي بدلاً من النهج الخيري.
للاطلاع على الفيديو اضغط هنا